مجلة البيان

ابن ماميه الانكشاري (930-987هـ) (1524-1580م) - ابن رومي عصره

الكل منا يعرف الشاعر الكبير أبو الحسن علي بن العباس بن جريج المشهور بابن الرومي (221-283هـ) ذلك الشاعر العباسي الشهير, ولكن قلة منا يعرف شيئا عن ابن الرومي الآخر والذي جاء بعد ابن الرومي الكبير بسبعة قرون من الزمن,إلا أن عوامل كثيرة جمعت بينهما رغم الفارق الزمني بينهما، فكلاهما روميان وكلاهما مولى وكلاهما برزا في عصور مزدهرة فالأول عاصر الدولة العباسية في أزهى عصورها والآخر عاصر الدولة العثمانية في عصر أعظم سلاطينها وهو السلطان سليمان القانوني.

          لا تعطينا المصادر المتوفرة لدينا الكثير من المعلومات حول نشأة ابن ماميه محمد بن أحمد بن عبد الله وأسرته إلا أنها تشير إلى ولادته في استانبول عام 930هـ  ويبدو من اسم جده ولقبه بالانكشاري أن والده من أصل بلقاني,حيث كان  أفراد الانكشارية يؤخذون صغارا من مدن البلقان ويدخلون الإسلام ويدربون ثم يلتحقون بالجيش العثماني, ورغم مولده في استانبول إلا أنه نشأ في دمشق حيث جاء به أبوه وهو صغير, وقد ساعد ذلك في إجادته للغة العربية والتعلم بها ,ولما شب التحق بالكتائب الانكشارية الموجودة فيها وحج وهو في الخدمة عام 960 هـ ومكث فيها حتى عام 965هـ فالتقى بأدبائها وطارحهم في الشعر,ثم أنه عاد بعد ذلك واستقر بدمشق وترك العسكرية ولازم العلماء وحبب إليه الأدب والشعر وعلوم اللغة العربية وعلى رأسها النحو,فنراه يلزم الشيخ أبا الفتح المالكي ويقرأ عليه في الأدب ثم قرأ على الشيخ شهاب الدين بن الأخ الاجرومية في النحو.

          قال العلامة الغزي : وكان قبل دراسته للنحو قد جمع ديوانا كله ملحون فلما ألم بالنحو أعرض عنه وأصلح ما يمكن إصلاحه وقد وقفت على نسخة من ديوانه وعليه إصلاحات كثيرة بخط ابن الأخ.

          وبعد عزله من الانكشارية عمل كمترجم في محكمة الصالحية ثم بالمحكمة الكبرى إلا أنه عزل عنها,فلما تولي القاضي محمد أفندي جوي زادة سار إليه ابن ماميه ومدحه بقصيدة فلما أنشدها بين يديه قال له القاضي : اجلس فجلس ثم سأله القاضي ما عندك فأجابه  ابن ماميه : الجهات الست ,فتبسم القاضي وسأله : ما عندك من الدواوين وكتب الأدب؟ فأجابه ابن ماميه : أذهبها الفقر , فقال له القاضي : فما تطلب ؟ فأجابه : ترجمة المحكمة الكبرى، فأمر له بها ثم عزل عنها بعد مدة ثم عين في ترجمة القسم (كانت الترجمة ضرورية في المحاكم آنذاك حيث كان المتقاضين أحيانا أتراكا لا يجيدون العربية أو عربا لا يجيدون التركية),ثم أصبح ابن ماميه يمدح الناس ويأخذ جوائزهم فأثرى حتى توفي في دمشق في محرم عام 987هـ وصلى عليه بالجامع الأموي ودفن في باب الفراديس بالقرب من قبر ابن مليك وأستاذه أبي الفتح المالكي,وقد ترك ابن ماميه ديوان شعر سماه ( روضة المشتاق وبهجة العشاق ) وقصيدة طويلة في رثاء السلطان سليمان القانوني وله تخميس البردة للبوصيري وكلها لا تزال مخطوطة.

          اشتهر ابن ماميه بالذكاء رغم ما قاساه من فقر وحاجه في بداية حياته  فتكسب من خلال شعره فمدح السلاطين والأعيان وتنوع شعره بين المدح والغزل والتخميس والأزجال والموشحات والألغاز ونظم التاريخ إضافة إلى بعض الهجاء, لذلك وصفه الزركلي بأنه زجال وإليه المنتهى في الموشحات , ووصفه الغزي بأنه كان إليه المنتهى في الزجل والموال والموشحات , وقال عنه الشيخ عبدالرؤوف بن يحيى الواعظ : إنه ممن توحد في عصره بصناعة الشعر وبرع في الصناعتين الغزل والنسيب.

وقد أثنى عليه شيخه وأستاذه أبو الفتح المالكي وشبهه بابن الرومي بقوله:

ظهرت لماميه الأديب فضيلة

في الشعر قد رجحت بكل علوم

لا تعجبوا من حسن رونق نظمه

هذا إمام الشعر ابن الرومي.

          وقد اهتم ابن ماميه بنظم التاريخ بدرجة كبيرة وذلك باستخدام حساب الجمل وكذلك الاقتباس من القرآن الكريم حتى أنه أرخ لتاريخ جمع ديوانه في قوله : وأتوا من أبوابها (971هـ).

وقال في تاريخ أحد الأعراس التي حضرها:

هنئتم بعرسكم والسعد قد خولكم

وقد أتى تاريخه نسائكم حرث لكم.

وقال في تاريخ إنشاء سبيل الشيخ أحمد بن سليمان:

هذا السبيل الأحمدي  لله فيه ما خفا

وقد أتى تاريخه اشرب هنيئا بل سفا

ولما بنى الوزير درويش باشا جامعه الشهير في دمشق قال فيه ابن ماميه :

في دولة السلطان بالعدل مراد

من قام بالفرض واحيا السنة

درويش باشا قد أقام معبدا

وكم له أجر به ومنه

بناه خير جامع تاريخه

لله فاسجد واقترب بجنة (982هـ)

وله في الاقتباس من القرآن كذلك قوله :

لقد مرض الظلوم فعدنا

فنحن إذا أناس راحمونا

فظن بأننا عدناه خوفا

فإن عدنا فإنا ظالمونا

وقوله :

هل لقوم ضلوا عن الرشد لما

أظهروا منهم اعتقادا خبيثا

كيف ينبئ عن القديم عقول

لا يكادون يفقهون حديثا.

وفي المدح نراه يمدح السلطان العثماني مراد الثالث بقوله:

بالبخت فوق التخت أصبح جالسا

ملك به رحم الإله عباده

به سرير الملك سر فأرخو

حاز الزمان من السرور مراده

وقال في رثاء السلطان سليمان القانوني :

انتقل العادل من دنيته

جاور الرحمن والمولى الرحيم

قالت الأقطاب في تاريخه

مات سليمان بن سلطان سليم.

وله أيضا مرثية طويلة في السلطان القانوني أوردها العيدروس في كتابه النور السافر عدد فيها مأثره وأعماله مطلعها :

لعمرك ما الأعمار إلا مراحل

وفيها مرور الحادثات مناهل.

ولا يخلو شعره كذلك من زوجتيه: إذْ يقول في شكواه من زوجتيه :

لو يقاسي قيس ما قاسيته

لشكى الناس ضر الضرتين

ذاك مجنون بليلى وحدها

وأنا المجنون بين الليلتين

أما في الغزل فكان لابن ماميه نصيب وافر منه حيث يقول في إحدى قصائده :

يقول حبيبي ما لطرف أحمر

كأنك يا حيران في نشوة التيه

فقلت له: إشراق وجهك قد بدا

وقابله طرفي فخيل فيه

وله أيضا :

كيف السبيل إلى كتم الغرام إذا

كاتبتكم وأردت السر يكتم

وقد غدا الطرس بالوجهين مشتهرا

وباللسانين أمسى يعرف القلم.

وله في التخميس[1] قصائد عديدة نذكر منها :

حبيبي زار في روض نزيه

وجاد برؤية الوجه الوجيه

وحين سكرت بالأشجان فيه

سقاني خمرة من ريق فيه

وحيا بالعذار وما يليه.

كما كان للقهوة نصيب وافر من أشعاره وقد كانت حديثة الانتشار في عهده إلا أنها لاقت قبولا وولعا عند الناس وانتشرت المقاهي في معظم المدن العربية فنراه يصفها بقوله :

قد شربنا قهوة بنية

ولها شربنا غدا بالنية

لونها قد حكى أذايب مسك

أو زباد وسط الزباد الجلية

ومثلها قوله :

أتتنا قهوة من قشر بن

تعين على العبادة للعباد

حكت في كف أهل اللطف صرفا

زبادا ذائبا وسط الزباد

وله فيها أيضا :

أنا المعشوقة السمراء

أجلى في الفناجين

وعود الهند لي عطر

وذكرى شاع في الصين.

          هذه نماذج بسيطة من أشعار ابن ماميه الانكشاري التي تميزت بالبساطة ومحاكاة لغة العصر واحتياجاته وهو العصر الذي بدأ فيه نجم الأدب العربي بالأفول والتقهقر نتيجة لسيطرة العناصر غير العربية على شؤون السياسة والإدارة.[2]

 

 



[1] - التخميس: هو نوع من الشعر  شبيه في الموشحات يكون له قافية واحدة في خمسة أشطر من الأبيات ثم تختلف القافية في الشطر السادس.

[2] - انظر ترجمة الشاعر في :

ابن العماد الحنبلي : شذرات الذهب 10/606, الغزي : الكواكب السائرة 3/50-51,ومواضع متفرقة من كتاب النور السافر للعيدروس.